عُرض الفيلم المصري دخل الربيع يضحك، من كتابة وإخراج نهى عادل، في مهرجان القاهرة في دورته الخامسة والأربعين، وهو الفيلم المصري الوحيد في المسابقة الرسمية للمهرجان. لاقى الفيلم تفاعلاً جماهيرياً قوياً بالضحك والتصفيق في عرضيه، الأول في دار الأوبرا المصرية، وهو العرض الذي شابه بعض سوء التنظيم نظراً للخلاف على الدعوات والتذاكر والإقبال الشديد، والثاني في القاعة الرئيسية في سينما الزمالك، في تجربة مهرجانية بالفعل، ولن تكون تجربة التلقي بالديناميكية نفسها إذا عُرض بشكل مستقل في قاعات متناثرة دون حضور أبطال العمل، ودون اكتظاظ القاعة بالمشاهدين. يستدعي ذلك الحماس والتفاعل الحي ظروف كتابة الفيلم نفسها، فقد كتبته نهى عادل أثناء فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كوفيد 19 في العام 2020، وهي الظروف التي جعلت تجربة المشاهدة الجماعية، سواء في دور العرض السينمائية أو الحفلات الموسيقية، تجربة مهددة بالانتهاء. خرج الفيلم إلى النور بعد تجاوزها لكي يُشاهَد كما ينبغي وسط جمهور حي وتفاعل لحظي، وفي عام يشهد موجة مرتجلة من أفلام لمخرجات من النساء، وهو ما لم تشهده دور العرض المصرية في وقت واحد من قبل، حيث يعرض حوالي أربعة أفلام من إخراج نساء، وتدور أحداثها في عوالم يمكن وصفها بالنسائية. يكثف دخل الربيع يضحك تلك العوالم ليستخرج منها كل ما يمكنه، ويجعلها، خاصة المغلق منها، وحدات مركزية للقص السينمائي.
تدور أحداث دخل الربيع يضحك في أربعة فصول مقسمة على أربعة شهور، ويجمعها فقط فصل الربيع كرابط مشترك، لكن يجمعها أكثر من ذلك من ناحية التناول الموضوعي أن كل فصل تقع أحداثه في سياق مغلق وخاص ببعضها أكثر من غيرها، يحتل كل فصل مكاناً وزمناً واحداً في مشهد ممتد عام وخاص في الوقت نفسه، ويتطور كل مشهد عن طريق الحوار بشكل أساسي، فيصبح التصاعد والتصعيد هو التيمة والتقنية الرئيسية في بناء كل قصة، حيث تبدأ مثل الموسيقى من مكان منخفض حتى تصل لذروتها، ثم تخفت لتعود لهدوئها الأول، يعزز من بناء الفيلم الموسيقي تمحوره الحرفي حول مجموعة من الأغنيات ترسي مزاج كل فصل أو تتداخل معه سردياً بشكل وصفي، يظهر أمام الكاميرا في كل فصل مجموعة من المؤدين، كثير منهم من غير المحترفين، فيظهر الأداء وكأنه غير مكتوب وغير مخطط له، على الرغم من أنه في حقيقة الأمر ناتج تدريبات وكتابة دقيقة ومتكررة.
يبدأ الفصل الأول في شرفة منزل في منطقة المعادى تطل على شجرة بونسيانا مزهرة حمراء، وتدور المحادثات بين أم وابنتها وجيرانهما، أب وابنه، حول طاولة صغيرة تحوي فناجين الشاي، والمحادثات القصيرة المحرجة، التي سرعان ما تتحول إلى تراشق بالاتهامات من الابن للابنة والعكس، فينكشف لحظتها التوقع الأول من الفيلم الذي اعتمد من بدايته على شكل أشبه بارتباك الأفلام التسجيلية، أي أن من أمام الكاميرا يبدو واعياً بها لكن ليس بشكل سينمائي بل بشكل توثيقي، فتبدو الشخصيات وكأنها شخصيات التقطت دون قصد، بتحفظ ثم صعدت لغتها الحوارية في لحظة غضب غير مقصودة لم يكن من المفترض التقاطها.
مشهد من فيلم «دخل الربيع يضحك» 2024
بعدما يرسي الفصل الأول المزاج العام للفيلم تتوالى الفصول في بيئات وأماكن مختلفة، يأتي الفصل الثاني في حفل عيد ميلاد تتجمع فيه مجموعة من السيدات اللواتي يتباهين بمستواهن الاجتماعي والمادي، وقدر كبير من التحرر اللغوي والراحة في الانكشاف التي سرعان ما تكشف مجموعة من الأسرار، تهدد الصداقات وتكشف دواخل لم تكن لتُكشَف في سياقات أكثر تحفظًا وعادية. في الفصل الثالث الذي تحتل قصته مساحة نسائية داخلية أكثر من سابقيه تقع الأحداث داخل كوافير حريمي، حيث لا وجود للرجال إلا من الأطفال الصغار الذين يختبرون عوالم مغلقة بعين متلصصة مثلنا تماماً نحن المشاهدين. في ذلك الفصل يتدرج الحوار إلى التصعيد بين مجموعة من الغرباء، تنتفي سمة الحميمية التي تصف الفصلين السابقين، لتصبح عوالم النساء المغلقة أكثر تجريداً، في سياق الحميمية الأدائية التي تصاحب أعمال التجميل والتحلل من التحفظات الجسدية.
يعود الفصل الأخير لحميمية التجمعات التي يعرف أفرادها بعضهم البعض معرفة لصيقة، فتقع أحداثه في غرفة فندقية، حيث تتحضر زوجة مستقبلية شابة ليوم عرسها، مع صديقاتها ووالدتها وخالتها، ويمثل العامل الدخيل مصور الكواليس الذي يخرج ويدخل إلى المساحة التي كانت ممنوعة على الرجال في يوم ما، لكنها أصبحت أكثر ترحيباً بالعيون الخارجية، سواء للمصورين أو النشر الإلكتروني، يحوي ذلك الفصل التأثير الأكثر عاطفية، حيث ينتهي بشكل أكثر تراجيدية من سابقيه، كل الفصول والحكايات تصنع الكوميديا الخاصة بها من خلال أكثر أشكال الجدل الفاضح تطرفاً، فتصبح حتى النهايات الصادمة ممسوحة بشكل ساخر من الاكتشاف الناتج عن التصعيد وفقدان التحكم. في الفصل الرابع تختار نهى عادل اكتشافاً أكثر تعقيداً وقدرة على تغيير الحياة إلى الأبد، ثم تنهي فيلمها بعودة للفصل الأول لتصنع إيبلوج Epilogue أو خاتمة على طريقة الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، فتعود موتيفة البداية لتظهر في النهاية وتصنع مزاجاً أكثر رقة ورفقاً ربما سينعكس على بقية الحكايات التي لم نرَ خاتمتها.
يسهل في أفلام مثل دخل الربيع يضحك إعلاء المجاز والإسقاطات على النص الأساسي، وموازاته بنص «تحتي – subtext» في محاولة لربط القصص المتفرقة وخلق سياق عام يحتويها داخله، فهو يصنع بعنوانه وسياقه الطقسي والزمني مجازاً واضحاً عن تلون الطبيعة في الربيع، ويربط ذلك بشكل أو بآخر بطبيعة النساء التي تحوي طبقات من الأسرار والأسطح المزهرة، لكن بتجاوز الإسقاطات المباشرة نصبح أمام تجربة شكلية تكاد تكون تدريبية، كل مشهد هو تمرين في التصعيد، وكأنه جلسة ارتجالية، يصبح الشكل هو المضمون، تعالي الأصوات وتداخلها، اعتراض الأجساد للكاميرا حتى يمتلئ الإطار بصور تجريدية يصعب فصلها بعضها عن بعض، تجاري الشكل التصعيدي الذي يبدأ من النظام وينتهي للفوضى، كل قصة تزداد بها الشخصيات واحدة بعد الأخرى، فيبدأ الفيلم بأربع شخصيات تُصوَّر بشكل يستدعي الجماليات التسجيلية، وجه تلو الآخر وتفاصيل منفصلة من حين لآخر مثل طبق من الفاكهة أو لقطة مقربة على زهرة أو حركة يد منفعلة، ثم تزداد الشخصيات عدداً وزخماً مع كل فصل، ومعها تبدأ الفوضى البصرية، فيصبح التصوير التسجيلي بداية كل فصل، لكن نهايته تشابك بالأجساد والأيدي تجعل الكاميرا عضواً سلبياً غير فعال لا يتبع الحركة بل تتبعه الحركة.
مشهد آخر من فيلم «دخل الربيع يضحك» 2024
على المستوى السردي، الفيلم يتجنب بشكل كامل أخذ مواقف عدائية من شخصياته مهما بلغ تطرفها، فيخرج بذلك الشخصيات النسائية من حيز الاستقطاب الجيد/السيئ، طيب/شرير، ملائكي/دنس، لتصبح الشخصيات على قدر كبير من التعقيد، وتصبح في ذاتها عنصراً للفرجة والتأمل، كل الشخصيات يمكن التعاطف معها وكراهيتها في الآن نفسه، يمكن تفهم دوافعها أو نبذها، يصنع ذلك تجربة مشاهدة ديناميكية، تطور روابط عاطفية عابرة مع شخصيات لا تكمل مدة الفيلم، لكنها تصنع تلك الروابط اللحظية بشكل رئيسي بسبب السهولة البالغة في التورط معها، نظراً لكونها نماذج يمكن التعرف عليها بشكل فوري من حياة كل مشاهد، يساعد الارتجال وحرية التصرف اللغوي على ذلك، كل شخصية تتحدث لغة سياقها الاجتماعي والشخصي، وهو ما يندر رؤيته على الشاشة خاصة في مصر، لذلك تتولد الكوميديا بسهولة من المحادثات العادية؛ لأنها محادثات غير مفلترة بلغة السينما الروائية أو الرقابة.
يرجعنا استخدام اللغة الخاصة بالبيئة والمحيط الاجتماعي إلى استعمال الفيلم للطبقة كمحرك للسرد، أحياناً باستخدام صور نمطية، وأحياناً بترك الشخصيات وممثليها للتصرف على طبيعتهم الكاملة، تسري النقاشات الطبقية في كل قصص الفيلم بداية من الحديث عن طبقة شبه أرستقراطية، والخلاف بين جيل جديد وقديم في شكل الترقي، واختيار شكل المعيشة بين الأحياء القديمة المدنية والأحياء الجديدة المنعزلة، ثم تتداخل بشكل أكبر طبقات المال الجديد التي تعتمد على التمظهر الشكلي والمادي والمجتمعات المنغلقة على ذاتها، وفي قصص أخرى، خاصة الفصل الذي تقع أحداثه في الكوافير، تتجمع مجموعة متنوعة من الطبقات في مكان مغلق بإحكام يزيد انغلاقه وقوع سرقة، تظهر شكلاً من التعسف الشكلي الطبقي وتساعد على تصعيد وانفجار المواقف، حيث لا مجال للهرب.
في فيلمها الطويل الأول صاغت نهى عادل مجموعة محكمة من المواقف والقصص، في عوالم مفرطة الواقعية، تترك لشخصياتها وممثليها الفرصة لإطلاق كامل لعنان التعبير الذاتي والوصول إلى ذروة أي موقف من بذرة صغيرة للتعقيدات الاجتماعية، كما طرحت شكلاً غير معتاد في الأفلام المصرية، وهو الفيلم المتسلسل أو «الأنطولوجي – Anthology»، حيث تتجمع عدة قصص في سردية واحدة، لكنها وعلى عكس الكثير من المقاربات، لم تربط القصص والشخصيات كلها في سردية مجمعة أو عن طريق أثر الفراشة، وهو يظل قراراً جريئاً يستند إلى الربط الموضوعي أكثر من الحرفي، ويستعرض في التجربة الأولى عدة مهارات بصرية وسردية ستتطور حتماً مع تجارب قادمة.
# فن # سينما # السينما المصرية # مهرجان القاهرة السينمائي الدولي